عمار بن ياسر: قراءة نقدية في الشخصية والحدث
عبقرية عمر في اختبار الرجال
عُرف عمر بن الخطاب رضي الله عنه بذكائه السياسي وصرامته في اختيار الولاة. ومن أبرز الأمثلة توليته عمار بن ياسر على الكوفة، ثم عزله سريعًا بعدما تبيّن ضعفه. فقد جاء وفد من أهل الكوفة مع جرير بن عبد الله، فسألهم عمر عن عمار فقالوا:
«لا والله ما هو بمجزئ ولا كافٍ ولا عالم بالسياسة»【المصنف لابن أبي شيبة، ج9 ص18】.
فأدرك عمر أن الرجل لا يصلح للإدارة، فعزله وبعث المغيرة بن شعبة مكانه. هذه التجربة تكشف باكراً هشاشة شخصية عمار في السياسة والإدارة.
تحريضه ضد أم المؤمنين عائشة
بعد مقتل عثمان رضي الله عنه، أصبح عمار رأس الحربة في التحريض على الصحابة الكبار. فقد روى ابن أبي شيبة أنه قال عن أم المؤمنين عائشة:
«إنها لزوجة نبيكم ﷺ في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلانا بها ليعلم إياه نطيع أو إياها»【المصنف لابن أبي شيبة، ج8 ص128】.
فأي عقل يقبل أن يُدعى الناس لقتال زوجة النبي ﷺ التي هي من أهل الجنة؟ وقد رد عليه بعض العقلاء: إذا كانت عائشة في الجنة، فهل لنا إن قاتلناها إلا النار؟!
سبُّه لعثمان وقتله في صفين
لم يتوقف الأمر عند عائشة، بل وصل الأمر إلى سبّ عثمان رضي الله عنه علنًا في المدينة. روى أبو الغادية الجهني – وهو من الصحابة الذين بايعوا تحت الشجرة – أنه سمع عمارًا يشتم عثمان، فتوعّده بالقتل، ثم نفّذ وعيده يوم صفين:
«سمعت عمار بن ياسر يقع في عثمان يشتمه بالمدينة… فلما كان يوم صفين حملت عليه فقتلته»【موسوعة الأسانيد الصحيحة، ج5 ص19】.
وهذا بإسناد صحيح رجاله ثقات.
فكيف يجعلون عمارًا ميزان الحق والباطل وهو يسبّ خليفة المسلمين المبشَّر بالجنة؟
موقفه من الزبير وطلحة
الأدهى أن عمار كان المحرّض الأول لأهل الكوفة على الخروج لقتال طلحة والزبير وأم المؤمنين عائشة. وكان من نتائج ذلك أن عمير بن جرموز التميمي – أحد أهل الكوفة – خرج مع جيش علي، فتمكّن من الزبير بن العوام، حواري رسول الله ﷺ، فقتله وجاء برأسه إلى علي.
جاء في المسند بسند صحيح:
«استأذن ابن جرموز على علي وأنا عنده، فقال علي: بشر قاتل ابن صفية بالنار. ثم قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: لكل نبي حواري، وحواري الزبير»【المسند للإمام أحمد، حديث 6881】.
إذن علي نفسه شهد أن قاتل الزبير في النار. لكن السؤال: إذا كان جيش علي هو “أقرب الطائفتين للحق” كما يزعم العباسيون، فلماذا قاتل الزبير في النار؟ ولماذا يُحمّل معاوية كل دماء عمار بينما يُعفى عمار وعلي من مسؤولية دم الزبير وطلحة وأهل البصرة؟
البغي الحقيقي: علي أم معاوية؟
من الحقائق الثابتة أن علي هو من خرج بنفسه بجيوشه إلى البصرة ثم إلى الشام. لم يتحرك أحد لقتاله أولاً، بل هو الذي بدأ. فالبغي كان منه ومن حزبه، لا من معاوية.
«بشر قاتل ابن صفية بالنار» شهادة علي نفسه.
أما قولهم: “عمار تقتله الفئة الباغية”، فهي زيادة مدسوسة لا أصل لها عند البخاري، وقد حذفها لعلتها【فتح الباري لابن حجر】.
النتيجة المنطقية: علي هو الذي بغى على المسلمين، وقتل خيار الصحابة، وأدخل الأمة في الفتنة. والبغي – كما في حالة الحسين مع يزيد – لا يعني الكفر، لكنه يبقى بغيًا.
حادثة “رفض القصاص من قتلة عثمان”
بعد مقتل عثمان، اجتمع الصحابي الجليل أبو جهم بن حذيفة وجماعة معه مع عمار بن ياسر للاتفاق على البيعة لعلي، فقالوا:
نبايع ولكن بشرط، نقيم القصاص.
فقال عمار:
«أما من دم عثمان، فلا»【الطبراني، وابن عساكر، والبخاري في التاريخ الأوسط، من طرق متعددة صحيحة عن حماد بن سلمة】.
فانصرفوا على غير بيعة.
وهذا يثبت أن الحزب العلوي لم يكن ينوي أصلًا الاقتصاص من قتلة عثمان. بل على العكس: قاتل علي ورفاقه طلحة والزبير ومعاوية وعائشة، بينما لم يُقدَّم واحد فقط من قتلة عثمان للقصاص خلال خمس سنوات حكم فيها علي الكوفة. بل ولّاهم المناصب وجعلهم قادة في جيشه!
أحاديث الفضائل المصنوعة
حديث “صبرًا آل ياسر”
من أكثر ما شاع: «صبرًا آل ياسر فإن موعدكم الجنة». لكن الحديث لا يثبت:
قال ابن حجر: «ضعيف جدًا، لأن عبد العزيز بن أبان متروك»【المطالب العالية، ج16 ص295】.
والصحيح أن المقصود بالجنة هما والدا عمار (ياسر وسمية) لا عمار نفسه.
حديث “تقتلك الفئة الباغية”
رواية استُعملت لتقديس عمار والطعن في معاوية. لكن التحقيق يكشف:
- البخاري تعمّد حذفها.
- رواياتها مضطربة.
- نصوص أقدم تشير إلى أنها كانت عن عثمان لا عن عمار【طه الدليمي】.
النهروان قبل صفين؟
ذكر ابن بطال في شرحه:
«صح أن عمارًا بعثه عليٌّ يدعوهم إلى الجماعة»【شرح ابن بطال، ج2 ص99】
وكذلك الأصبهاني【شرح صحيح البخاري للأصبهاني، ج2 ص407】.
لكن إن كان عمار قد قُتل في صفين، فكيف بعثه علي بعد ذلك إلى النهروان؟ هذا يكشف عن اضطراب الروايات التي استُعملت لاحقًا لتلميع صورة عمار.
المعيار المزدوج في تنزيل النصوص
العباسيون ينزلون حديث: «تقتلك الفئة الباغية» على معاوية وعمرو بن العاص، فيجعلون قتلهما لعمار طعنًا في عدالتهم.
لكن بنفس المنطق، ننزل حديث النبي ﷺ: «المدينة حرم من أحدث فيها حدثًا أو آوى محدثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين» على علي بن أبي طالب، لأنه آوى قتلة عثمان، واعترف بنفسه أنه أحدث أحداثًا.
فإما أن نمسك عن الجميع ونوقرهم، أو ننزل النصوص على الجميع بلا استثناء. أما الكيل بمكيالين – حيث يُحمَّل معاوية دم عمار، ويُعفى علي من دم عثمان والزبير وطلحة – فباطل.
الخلاصة
- عمار لم يكن كفؤًا في السياسة ولا الحكم.
- كان رأسًا في التحريض على أم المؤمنين عائشة والصحابة الكبار.
- سبّ عثمان، فقُتل ثأرًا له على يد أبي الغادية الصحابي.
- حرّض على الزبير فقتله ابن جرموز، الذي شهد علي عليه بالنار.
- رفض هو وحزبه إقامة القصاص من قتلة عثمان.
- خاض علي وعمار الحروب ضد الصحابة، ولم يُقموا قصاصًا واحدًا خلال خمس سنوات من الحكم.
- فضائل عمار المزعومة مبنية على أحاديث ضعيفة أو محرفة.
الكلمة الأخيرة
أيها العباسيون: لماذا قاتل الزبير يمثل نفسه فقط، بينما قاتل عمار يمثل كل خصوم علي؟
ابن جرموز مجرد منفذ لأوامر قيادته، كما أن عمار كان محرضًا لا ضحية بريئة.
{كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين * فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها} [الحشر: 16-17].
مثل ابن أبي طالب مع عمار، مثل الشيطان مع الإنسان: حرضه ثم تركه للنار.
المراجع
- المصنف لابن أبي شيبة، ج9 ص18.
- المصنف لابن أبي شيبة، ج8 ص128.
- موسوعة الأسانيد الصحيحة، ج5 ص19.
- موسوعة القبائل العربية، ج8 ص170.
- المسند للإمام أحمد، حديث 6881.
- المطالب العالية لابن حجر، ج16 ص295.
- فتح الباري لابن حجر.
- شرح صحيح البخاري لابن بطال، ج2 ص99.
- شرح صحيح البخاري للأصبهاني، ج2 ص407.
- مسند أحمد، حديث 8522.
- الطبراني، المعجم الكبير؛ البخاري، التاريخ الأوسط؛ ابن عساكر، تاريخ