مجلة معاوية بن أبي سفيان
مجلة معاوية بن أبي سفيان

تفكيك أكبر كذبة صنعتها البروباغندا الكوفية حول موت مالك الأشتر

تاريخ النشر: ٠٣ ديسمبر ٢٠٢٥
وقت القراءة: دقيقة واحدة قراءة
رضا شرارة
كاتب المقال: رضا شرارة
عدد المقالات:
تفكيك أكبر كذبة صنعتها البروباغندا الكوفية حول موت مالك الأشتر

العسل المسموم: لماذا هي أسطورة سياسية وليست حقيقة تاريخية؟

تفكيك أكبر كذبة صنعتها البروباغندا الكوفية حول موت مالك الأشتر

من بين كل الأساطير التي صنعتها الدعاية الكوفية–الشيعية لتشويه الدولة الأموية، تبقى قصة “العسل المسموم” هي الأكذوبة الأكثر انتشاراً، لأنها تمنح الخصوم مادة درامية سهلة: “معاوية قتل الذراع اليمنى لعلي بخدعة الغدر”. لكن عند إخضاع هذه القصة للبحث العلمي الممحّص وفق منهج الجرح والتعديل وقواعد النقد التاريخي، لا يبقى منها إلا القشور. هنا التفكيك الكامل للرواية من سبعة محاور مدعمة بالمصادر: السند، المصدر، المعاينة، المنطق، الجغرافيا، الطب، والدعاية.


1. السقوط السندي: أصل الرواية معطوب

المصدر الرئيس للقصة هو الإخباري أبو مخنف لوط بن يحيى، وتدور أغلب تفاصيلها في فلكه أو فلك هشام الكلبي، ولا توجد رواية صحيحة الإسناد خارج هذه الدائرة المطعون فيها. إليك حكم أئمة الجرح والتعديل في "أبي مخنف":

  • الإمام أحمد بن حنبل: “متروك الحديث” (بحسب ما نقله الذهبي في ميزان الاعتدال).
  • يحيى بن معين: “ليس بثقة” (لسان الميزان: 4/492).
  • الإمام الذهبي: “إخباري تالف لا يوثق به” (ميزان الاعتدال: 3/419).
  • أبو حاتم الرازي: “من المتروكين” (الجرح والتعديل: 7/182).

التحليل: نحن أمام رجل ساقط العدالة، ومشهور بـ "التشيع المحترق" وصناعة الروايات التي تشيطن الأمويين. الاعتماد عليه منفرداً في إثبات "اغتيال سياسي" هو سقوط علمي فاضح لا يقبله منهج البحث التاريخي الرصين.


2. الانقطاع وغياب شاهد العيان

حتى لو تجاوزنا ضعف الراوي، نصطدم بـ "الانقطاع". الروايات في تاريخ الطبري (ج5/96) وغيره تأتي بصيغ التمريض والشك: “قيل”، “يذكر”، “بلغنا”.

التساؤل المنهجي: لا يوجد شاهد عيان واحد نقل ما دار بين معاوية وبين "الدهقان" (الرجل المجهول) في القلزم. كيف لمؤرخ جالس في الكوفة أن يعرف تفاصيل "اتفاق سري للغاية" عُقد في دمشق ونُفذ في السويس؟
الجواب: لا أحد. وما بُني على “قيل” لا يصبح دليلاً شرعياً ولا قانونياً، خاصة في دماء المسلمين وتخوين الصحابة.


3. تفكيك جملة “إن لله جنوداً من عسل”

يستدل الخصوم بمقولة معاوية الشهيرة: "إن لله جنوداً من عسل". لكن التحليل البياني يقلب السحر على الساحر:

  • لو كان معاوية هو الفاعل المباشر، لقال: “خدعناه” أو “كفيتكموه”.
  • نسبة "الجند" إلى الله تعني الإيمان بـ القدر والمصادفة التي تخدم الإنسان دون تدبير منه. تماماً كما تقول عند غرق سفينة عدوك في عاصفة: “إن لله جنوداً من رياح” — وهذا لا يعني أنك إله الريح أو صانع العاصفة.

معاوية (رضي الله عنه) داهية العرب، ولو كان قاتلاً لما تفاخر بأداة الجريمة علناً، بل لأخفى الأثر ونسب الموت للمرض. الجملة تبرّئه أكثر مما تدينه وتدل على ابتهاجه بالنتيجة لا تدبيره للسبب.


4. الاستحالة اللوجستية: رواية ضد الجغرافيا

لنفكّر بمنطق عسكري وجغرافي بحت:

  • المسافة بين الشام والقلزم (السويس) تزيد عن 700 كم.
  • قرار علي بن أبي طالب بتعيين الأشتر كان "قرار طوارئ" سريعاً بعد اضطراب مصر.
  • كيف عرف معاوية بالقرار فور صدوره؟ وكيف سبقت خيله خيل الأشتر؟
  • كيف وجد في القلزم "عميلاً جاهزاً" ومعه "السم المناسب" في هذا الوقت القياسي؟

نحن نتحدث عن زمن بلا اتصالات ولا أقمار صناعية. الأقرب للمنطق الواقعي: الأشتر وصل منهكاً، أُكرم بالعسل، فوافق ذلك أجله الطبيعي. ومعاوية استثمر الحدث إعلامياً — فحوّره الخصوم إلى “مؤامرة”.


5. العامل الطبي: العمر والإعياء والسفر

مالك الأشتر — كما يذكر ابن سعد في الطبقات الكبرى — كان من "المخضرمين" (أدرك الجاهلية والإسلام)، مما يعني أنه كان شيخاً كبيراً في العقد السادس أو السابع. رحلة من العراق إلى مصر على الدواب في حرارة الصحراء كفيلة بإسقاط شاب… فكيف برجل مسنّ أنهكته حروب الجمل وصفين؟

طبياً: الإفراط في تناول العسل لرجل منهك المعدة قد يسبب:

  • صدمة هضمية حادة.
  • تسمماً غذائياً (Botulism) إذا كان العسل فاسداً أو ملوثاً طبيعياً، وليس مسموماً بفعل فاعل.

6. البروباغندا: لماذا احتاجت الكوفة هذه القصة؟

موت الأشتر دون قتال كان "كارثة معنوية" لجيش العراق. كان الرجل يمثل "الأمل الأخير" لاستعادة مصر. الاعتراف بموته "ميتة طبيعية" يعني هزيمة نفسية وانكساراً أمام "حظ معاوية". لذا احتاجت الدعاية الحربية إلى رواية بديلة:

  • تحويل "الموت العادي" إلى "استشهاد غادر".
  • شيطنة الخصم (الأمويين) وتحويلهم إلى قتلة يغتالون بالسم لا بالفروسية.
  • تأجيج الغضب الشعبي لمواصلة القتال.

7. التاريخ السني ينقل… لكنه لا يجزم

يجب التمييز بين "النقل" و"التصحيح". نعم، ذكر الطبري وابن الأثير القصة، ولكن:

  • الطبري: منهجه (كما قال في مقدمته): "من أسند فقد أحال"، أي أنه يروي لك بالسند ويترك لك الحكم، وقد أوردها بسند فيه أبو مخنف (الساقط).
  • ابن كثير: في البداية والنهاية (7/346)، استخدم صيغة التمريض بوضوح فقال: "قيل إنه سُمّ"، ولم يقل "سَمّه معاوية" كحقيقة مطلقة.
  • ابن خلدون: حذّر في مقدمته من قبول أخبار "الدسائس" التي يرويها خصوم الدول دون تمحيص.

8. شهادة التاريخ النقدي: ماذا يقول المستشرقون والمحققون الغربيون؟

لا تكتفي المدرسة التاريخية الغربية (التي تعتمد منهج النقد الصارم للمصادر) برفض الرواية فحسب، بل تعتبرها نموذجاً كلاسيكياً لما يسمى "Topos" (ثيمة أدبية متكررة)؛ حيث يميل العقل الجمعي القديم إلى تفسير أي موت مفاجئ للقادة العظماء على أنه "سم"، لعدم استيعاب فكرة الموت الطبيعي للبطل.

  • يوليوس فلهاوزن (Julius Wellhausen): في كتابه المرجعي (الدولة العربية وسقوطها)، يعتبر أن هذه القصص نابعة من "التقليد العراقي" (Iraqi Tradition) المعادي للشام، وأنها صيغت لتبرير الفشل السياسي للكوفة عبر شيطنة معاوية.
  • هنري لامنس (Henri Lammens): المؤرخ البلجيكي يرى في دراساته عن معاوية أن تهم الاغتيال هي جزء من "الأسطورة السوداء" التي نسجها العباسيون والشيعة لاحقاً، مؤكداً أن معاوية كان يعتمد على الدهاء السياسي لا الاغتيالات الرخيصة التي قد تأتي بنتائج عكسية.
  • التحليل اللوجستي الغربي: يشير مؤرخون مثل ليوني كايتاني (Leone Caetani) إلى أن تفاصيل القصة تزداد دقة كلما تأخر الزمن (في كتب المتأخرين)، بينما هي غامضة في البدايات، مما يؤكد أنها "نمت" وتطورت عبر الزمن ولم تكن حقيقة موثقة.

اتفاق التحليل النقدي الغربي مع قواعد الجرح والتعديل الإسلامية يوصلنا لنتيجة واحدة: الأشتر مات بمرض الشيخوخة والإجهاد، والسم كان في "أقلام المؤرخين" لا في عسل القلزم.


الخلاصة القاطعة

رواية “العسل المسموم” تنهار أمام النقد العلمي:

  • ساقطة سنداً: مدارها على كذابين ومتروكين.
  • مضطربة متناً: تخالف المنطق الجغرافي والزمني.
  • مقلوبة دلالياً: مقولة معاوية تدل على الفرح بالقدر لا التدبير.
  • ولها بديل راجح: موت الشيخ الكبير بالإعياء والمرض.

الحقيقة الراجحة: مالك الأشتر مات حتف أنفه، واستثمر معاوية الحدث سياسياً. الأسطورة أكبر من الحقيقة… لكن الحقيقة، عند التحقيق، أقوى وأبقى.

المصادر والمراجع للتحقق:

  • ميزان الاعتدال في نقد الرجال — الإمام الذهبي (ترجمة لوط بن يحيى).
  • لسان الميزان — ابن حجر العسقلاني.
  • تاريخ الرسل والملوك — الطبري (حوادث سنة 38 هـ).
  • البداية والنهاية — ابن كثير (المجلد السابع).
  • العواصم من القواصم — القاضي أبو بكر بن العربي (في تبرئة الصحابة من مرويات الإخباريين).
صورة لجرّة فخارية عربية قديمة يتساقط منها العسل تحت إضاءة درامية مظلمة، في مشهد سينمائي يوحي بالغموض والتحقيق التاريخي. تمثل الصورة رمزية أسطورة "العسل المسموم" التي يناقشها المقال وتفكيكها علمياً.

مجلة معاوية بن أبي سفيان

منصّة بحثية نقدية بلا مجاملات؛ نقول الأشياء كما هي ونحتكم إلى الدليل.

تحقيقات مسندة نقاش منضبط بلا تجريح خصم ‎17%‎ على السنوي