تمهيد المدرسة العثمانية الراشدة
هذا ليس مجرد تعريفٍ بصحابيٍ جليل، بل قراءةٌ راشديّةٌ لمرحلةٍ التُبس فيها الحق بالهوى، حتى صار من يطلب القصاص لعثمان “باغيًا”، ومن عطّل حدَّ الله “إمامَ هدى”! سنمشي خطوةً خطوة: سيرةٌ محقَّقة لفضالة بن عبيد رضي الله عنه، ثم إسقاطٌ على ميزان العدالة والسياسة: من الذي عمل بمقتضى البيعة والقصاص؟ ومن الذي ولّى الأقارب وبدّد الشورى؟
منذ كنتُ شابًا يافعًا أبحث عن أمجاد الصحابة
منذ كنت شابًا يافعًا أقرأ في بطون الكتب وأحلم أن أعرف أمجاد الصحابة الذين غيّروا وجه الأرض، كنت كلما اقتربت من حادثة مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه أشعر أن التاريخ يغيم، وأن شيئًا غريبًا يحدث:
رجلٌ مثل ذي النورين يُقتل في داره وبين يديه مصحف، ثم لا يلبث التاريخ أن يُقلب رأسًا على عقب، فيُصبح القاتل مؤمنًا، ويُتّهم المطالب بالقصاص بأنه باغٍ!
كنت آنذاك منشغلًا بعلوم الرياضيات والهندسة والفيزياء، أؤمن بالعقل والمنطق.
لكن ما إن أفتح باب التاريخ الإسلامي، حتى يتوقف المنطق ويُمنع التفكير!
فإذا بشخصٍ يقول لي: «لا تخض في الفتنة، هذه عقيدة أهل السنة والجماعة» — أيُّ إرهابٍ فكريٍّ هذا؟
وكأن التاريخ جريمة يعاقَب من يحقق فيها.
ثم يأتي آخر فيقول بثقةٍ مصطنعة: «الحق مع عليّ، والحق والحق والحق مع عليّ، هذا إجماع أهل السنة!»
فأتعجب: منذ متى صار الإجماع يُستعمل كالمطرقة لسحق العقول؟
ثم آخر “مؤرخ” يروي لي مقتل طلحة والزبير، ويغمس الحكاية في دموعٍ زائفة عن الفتنة، ويُسيء لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها — التي قال فيها القرآن: ﴿النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم﴾ — فيجعلها مجرّد امرأة خرجت طيشًا أو نسيانًا!
ثم جاءني قومٌ آخرون، أرادوا أن يسحروني بسحر السكوت.
قالوا لي بوجهٍ عابسٍ متصنعٍ للورع:
«اسكت، هذه فتنة كبيرة، لا تخض فيها، ولا تلوث قلبك».
وكنت أقول في نفسي: أية فتنة هذه التي يخافون منها أكثر من فتنة الجهل؟
قالوا: «ابن أبي بكر الصديق دخل على عثمان ليقتله وأخذ بلحيته!»
فكاد قلبي يتمزق!
كنت أردد في عقلي: كيف لابن أبي بكر الصديق الذي ذكر الله أباه في القرآن أن يمدّ يده على عثمان؟
ولولا لطف الله لضللت كما ضلّ كثيرون.
لكن بعد زمنٍ من البحث، اكتشفت الحقيقة:
لقد قالوا نصف القصة، وأخفوا النصف الآخر، فمحمد بن أبي بكر لم يربّه أبوه، بل ربّاه عليّ!
كان ربيبه لا ابنه التربوي، فقلت في نفسي:
لماذا لم يقولوا لي الحقيقة؟ لو قالوا “ربيب عليّ” لكان الأمر أهون على القلب والعقل.
كنت أقول لنفسي:
أيعقل أن يحاول ان يقتل “أخو عائشة” عثمان، ثم يقف في صف عليّ و قتلت عثمان الذين قاتلوا عائشة في معركة الجمل؟
يا للهول، ما هذا التناقض الذي سكت عنه الشُرّاح والمحدّثون؟
لو حدثوني عن دعاء أم المؤمنين عائشة على محمد بن أبي بكر عندما اقترب من جملها في معركة الجمل، لعرفتُ أسمى معاني الولاء والبراء؛
عرفتُ أن الحب في الله لا يمنع المفاصلة في الباطل، وأن من تجاوز حدود الله في الدماء خرج من صف الصديقين ولو كان من نسلهم.
هنا فقط بدأت أرى التاريخ كما هو، لا كما يُراد له أن يكون:
رأيتُ أن من ربّى محمد بن أبي بكر هو عليّ، وأن من دافع عن عثمان هم أهل بيعة الرضوان، ومنهم فضالة بن عبيد رضي الله عنه الذي ظل على العهد والبيعة، يرى أن من قُتل مظلومًا لا يُسكت عن دمه بتأويلٍ أو بخطبةٍ أو بمذهبٍ مُخترعٍ.
هكذا انكشفت الغشاوة عن بصري، فعرفت أن الحق لم يكن حيث دلّونا، بل حيث دلّ القرآن والسيرة الصحيحة: مع من نصر المظلوم ولم يتذرّع بالفتنة.
من هو فضالة بن عبيد؟
- نَسَبُه وكنيته: فضالة بن عبيد بن نافذ بن قيس بن صهيبة الأنصاري الأوسي، كنيته أبو محمد.
- صحبته وجهاده: من أهل بيعة الرضوان، شهد أحدًا والخندق والمشاهد كلها، وشهد خيبر مع رسول الله ﷺ.
- علمه وقضاؤه: من قضاة الصحابة الفقهاء وكبار قرّاء الشام.
- إمارته في الشام ومصر: سكن دمشق، وولّاه معاوية القضاء بعد أبي الدرداء، وكان قبله أميرًا للغزو، وكان ينوب عن معاوية في الإمارة إذا غاب عن دمشق. وذُكر أنه شهد فتح مصر وتولى بها القضاء مدة.
- وفاته: بدمشق، ودُفن في باب الصغير. وقيل في سنة وفاته: 53هـ أو 59هـ أو 69هـ، والأول أرجح. وحمل معاوية نعشه بنفسه وقال لابنه عبد الله: «تعال أعقبني، فإنك لن تحمل مثله أبدًا.»
نصوص التراجم الموثّقة:
- قال سعيد بن عبد العزيز التنوخي مفتي دمشق (ت 167هـ):«لما خرج معاوية إلى صفين استخلفَ فضالة بن عبيد على دمشق.»(تاريخ أبي زرعة الدمشقي، ص 199، رقم 144)
- وقال المِزّي في تهذيب الكمال (ج20، ص186):«شهد أحدًا، وبايع تحت الشجرة، وشهد خيبر، ثم ولاه معاوية على الغزو، ثم القضاء بدمشق، وكان خليفة معاوية على دمشق إذا غاب عنها.»
- وأثنت عليه مصادر السير والحديث: سير أعلام النبلاء للذهبي، الطبقات لابن سعد، الإصابة لابن حجر، وتاريخ دمشق لابن عساكر، وغيرها.
الخلاصة: معاوية لم يولِّ قرشيًا ولا أمويًا، بل أنصاريًّا عدلًا فقيهًا؛ معيارُه الأمانة والكفاءة لا العصبية. هذا لبُّ “المدرسة العثمانية الراشدة”.
مكانته عند معاوية: الرجال لا الأنساب
ولا يعرف قدر الرجال إلا الرجال. لقد عرف معاوية بن أبي سفيان قدر فضالة، فأكرمه بالإمارة والقضاء والغزو. هذا الاختيارُ وحده شاهدٌ على أن دولة الشام بُنيت على العدل والاختصاص؛ ولهذا كانت دمشق زمن معاوية مرجعًا في الفقه والقضاء والسياسة.
مصادره في كتب أهل السنة والجماعة
- السير والتراجم: سير أعلام النبلاء، الطبقات الكبرى، الإصابة.
- الحديث: ذُكرت رواياته في صحيح مسلم، وسنن أبي داود، والترمذي، والنسائي.
- التاريخ: تاريخ دمشق، وتاريخ أبي زرعة.تصفه هذه المصادر بأنه صحابيٌّ فقيهٌ قاضٍ عدل، وتؤكد توليتَه القضاء والإمارة من قِبل معاوية.
بين من يُحسن الاختيار ومن يُحابي الأقارب
الفرق بين سياسة الشام وسياسة الكوفة صارخ:
معاوية يختار الأكفاء من الصحابة (كفضالة الأنصاري)، وعلي يولي أقاربه على الأمصار:
- البصرة: عبد الملك بن العباس
- اليمن: عبيد الله بن العباس
- المدينة: قثم بن العباس
- مكة: معبد بن العباس
- خراسان: جعدة بن نميرة (ابن أخته)
- مصر: محمد بن أبي بكر (ابن زوجته)
- ولاية العهد: الحسن بن علي (ابنه)وأراد الشام لابن عمّه عبد الله بن عباس فلم ينتظم له الأمر.
فإن كانت “تولية الأقارب” عند غيره محسوبية، فما اسمها هنا؟ أليس هذا الكيل بمكيالين؟
﴿وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ﴾
عقدة “حديث عمّار” وتفكيك الاستدلال السياسي
قيل: “حديث عمّار: تقتله الفئة الباغية حاسمٌ للنزاع”.
لكن أهل التحقيق ذكروا أن زيادة “تقتله الفئة الباغية” ليست على شرط البخاري، وأن ما في صحيحه هو أصل قصة عمّار بلا تلك الزيادة الحاكمة، بينما رويت بطرقٍ فيها مقال عند غيره. وذكر ابن حجر في فتح الباري أن هذه الزيادة ليست بمستوى شرطه، وأن دلالتها ليست قاطعة لإبطال اجتهاد من طلب القصاص لعثمان.
فهل يُعقل أن يجعل النبي ﷺ حديثًا واحدًا حَكَما على كل مقتضيات القصاص والشورى التي قررها القرآن؟
القرآن يأمر بالإصلاح والقصاص، لا بتعطيل الحد وتأبيد الفتنة.
“الباطنية السنية”.. كيف تسرّبت رواية الكوفة تحت عمامة الحديث؟
الخطر الأكبر لم يكن في التشيع الصريح، بل في التشيع المقنّع بعباءة السنة:
- تحسينُ رواياتٍ موضوعة (مثل “أنا مدينة العلم وعلي بابها”) بزعم “جمع الطرق”، حتى صار معناها عمليًا: “العلم محصورٌ في علي”، وهو ما ينقض جماعيةَ العلم في الصحابة. وقد عَدَّ ابن الجوزي هذا الحديث موضوعًا، ومع ذلك مال بعض المتأخرين إلى تحسينه؛ ففُتح الباب لروح العصمة من النافذة السنية.
- الطعنُ في الصحابة لتمرير موقفٍ سياسي: يُزعم أنهم تركوا النبي ﷺ بعد وفاته وانشغلوا بالسقيفة! وقد نُقلت رواياتٌ منسوبة لوكيع بن الجراح أنكرتها مكة، وكاد أهلها يفتكون به لما فيها من إزراءٍ بمقام النبوة والصحابة، حتى تدخل سفيان بن عيينة مهدئًا الموقف.
- قلبُ مفهوم أهل البيت من اللسان العربي إلى اصطلاحٍ حزبي؛ بينما نصَّ الخليل بن أحمد في كتاب العين على أن “أهل الرجل: زوجه وأخص الناس به، وأهل البيت: سكانه”؛ وفي القرآن: ﴿وأزواجه أمهاتهم﴾. فكيف صارت “أهل البيت” ذريةً وبني عمٍّ دون أمهات المؤمنين؟
هذه الطبقة الفكرية هي التي شرعنت سبَّ الصحابة في عصور الحكم البويهي والفاطمي؛ وقد أشار ابن كثير إلى أن سنة 347هـ شهدت استشراء الرفض وسب الصحابة في الأقاليم التي سيطر عليها أولئك. وما ذلك إلا نتيجة تمهيدٍ طويل سبقها؛ ومنه تسويقُ رواياتٍ تنتقص عثمانَ والشاميين وتمجّد التأويل الهاشمي.
سؤالٌ للعقلاء
لماذا امتلأت كتب “الإنصاف” بحديث “أخطاء عثمان”، ولم نجد فيها فصلًا صريحًا عن سياسة علي في تولية الأقارب وتعطيل القصاص؟
أهو الخوف من هالة العصمة غير المصرَّح بها؟ أم هو الإدمان على الرواية العباسية التي جعلت الشام “فئة باغية” والحجاز والكوفة “فئة مهتدية”؟
إن كان الميزان قرآنًا وسنّةً وعقلًا، فالعدل واضح: من طلب القصاص أقام الدين، ومن عطّله فتح باب الدم.
لماذا كان فضالة مع معاوية؟
- لأن دم عثمان لا يُغسل بشعار “الفتنة”، بل بالقصاص.
- لأن الشورى لا تعني تولية الأقارب ثم قتال خيار الصحابة (طلحة والزبير وأم المؤمنين عائشة).
- لأن سياسة معاوية قامت على اختيار الأكفاء من كل القبائل (أنصاريّ على دمشق!)، لا على العصبية.
- لأن أهل الشام يومئذٍ هم جيش الفتح ضد الروم، ومن الظلم تصويرهم “فئة باغية” لمجرد أنهم طلبوا حقَّ الدم.
مقطع فيديو
قصة من قصص الصحابة مرتبطة بمدرسة الشام والعدل:
عنوان الفيديو : قصة فضالة بن عبيد، الفارس الذي يسبق الخيل، والقاضي العادل (قصص الصحابة)
مصادر وكتب للرجوع
- تاريخ أبي زرعة الدمشقي (نصّ استخلاف فضالة على دمشق).
- تهذيب الكمال للمِزّي (سيرة فضالة ووظائفه).
- سير أعلام النبلاء للذهبي، الطبقات لابن سعد، الإصابة لابن حجر (تراجم واعتماد).
- تاريخ دمشق لابن عساكر (ترجمة فضالة ووثائق الشام).
- فتح الباري لابن حجر (الكلام على زيادات حديث عمّار وبيان ما ليس على شرط البخاري).
- كتاب العين للخليل (ضبط معنى “أهل البيت”).
- البداية والنهاية لابن كثير (ذكر شيوع الرفض وسب الصحابة في القرن الرابع).
خاتمة راشدية
ليس المقصود تمجيد رجلٍ على حساب رجل، بل إقامة ميزان:
- فضالة بن عبيد شاهد عدل على سياسة معاوية: اختيارُ الأكفاء، تعظيمُ القضاء، والالتزامُ بالقصاص.
- وأمام هذا، تبدو سياسة علي — في التولية والقتال وتأجيل القصاص — مجانبةً للحق السياسي وإن كانت له فضائل جليلة في الدين والسابقة.
العدل يقول: من نصر دم عثمان كان على الحق، ومن عطّل القصاص وولّى الأقارب أخطأ الحق.
وهنا نفهم لماذا ظلّ فضالة بن عبيد ثابتًا على بيعة الرضوان:
لأنها بيعةٌ للحق لا للأسماء، وميثاقٌ للقصاص لا للشعار