التضليل التاريخي ومعركة الوعي
نحو منهجٍ راشد لمجلة «معاوية بن أبي سفيان» في مواجهة حملات التشويه
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
لم يعد الحديث عن التضليل (Disinformation) حكرًا على الساسة والمفكرين في الغرب؛ فالدول الحديثة نفسها باتت تُصدِر أدلةً رسمية لمساعدة موظفيها على فهم التضليل ورصده والتعامل معه، إدراكًا لكونه سلاحًا خطيرًا يفتك بالعقول قبل أن يفتك بالمؤسسات.
وإذا كان الغرب يخشى التضليل لأنه يهدّد ديمقراطيته وانتخاباته، فإن الأمة الإسلامية تواجه نوعًا أخطر من التضليل: تضليل يمسُّ ذاكرتها التأسيسية، ويستهدف صورة الصحابة، ويُعيد كتابة التاريخ بما يخدم أهواء طائفية أو أيديولوجيات معاصرة تقتات على الكراهية والانقسام.
من هنا تنطلق مجلة معاوية بن أبي سفيان؛ لا بوصفها منبرًا دعائيًا أو حزبيًا، بل مشروعًا منهجيًا لـتحرير الرواية التاريخية من أدران التضليل الشيعي–العباسي–الباطني، وبناء وعي جديد منضبط بنصوص الوحي وقواعد العلم، ومستفيد – في الوقت نفسه – من الأدوات الحديثة التي طوّرها الآخرون في فهم حرب المعلومات.
أولًا: ما هو التضليل؟ تمييزٌ بين الكذب، والجهل، والرأي
لكي نحارب التضليل، لا بد أن نبدأ بتعريفه. في أدبيات مكافحة التضليل الحديثة، يتم التفريق بين أربعة مفاهيم رئيسية، يمكن تكييفها على ساحتنا الإسلامية:
1. التضليل (Disinformation) — الكذب المتعمّد
هو نشر معلوماتٍ كاذبة أو ملفقة عن عمد، وبقصد التأثير أو الإفساد أو التحريض. وفي سياقنا التاريخي يمكن أن نرى صورًا من هذا التضليل في:
- اختلاق روايات تَطعن في عثمان بن عفان رضي الله عنه، مع معرفة مسبقة بضعفها أو بطلانها.
- تعمّد تصوير معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه على أنه «أصل الاستبداد الأموي» مع تجاهل تام لمرحلة حكمه الرشيد وقواعد الشورى التي حكم بها الشام قبل الخلافة وبعدها.
- إلصاق تُهَم خيالية بأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، دون أي سند صحيح، فقط لخدمة رواية مذهبية مسبقة.
هذا النوع من التضليل ليس «اختلافًا في الاجتهاد»، بل عدوانٌ على الحقيقة وعلى عدالة جيلٍ أثنى الله عليهم في كتابه.
2. المعلومات الخاطئة (Misinformation) — الجهل الذي يُعاد إنتاجه
هنا لا يكون الهدف الكذب، بل قد يكون الناقل مخدوعًا برواية منتشرة، فيعيد نشرها بحسن نية:
- شخص يقرأ في كتاب متأخر أو في موقع غير موثوق قصةً درامية عن الفتنة الكبرى، فينقلها على أنها «حقيقة تاريخية».
- واعظٌ أو خطيب جمعة يكرر قصة ضعيفة أو موضوعة عن الصحابة، ظانًّا أنه «يؤثر في الناس».
المشكلة هنا ليست في النية، بل في انعدام المنهج: لا تمييز بين صحيح وضعيف، ولا حرص على التوثيق، ولا وعي بخطورة ما يُقال في حق جيلٍ هم حَمَلَة الدين.
3. المعلومات المؤذية (Malinformation) — حق يُراد به باطل
هنا تُستعمل معلومة صحيحة في سياقٍ مغرض، أو تُقتطع من بيئتها حتى تُفهَم بالعكس:
- اقتطاع جملة لصحابي في لحظة غضب أو فتنة، وتضخيمها كأنها تلخيص لموقفه من الدين كله.
- إظهار حادثة منفردة من تاريخ خليفة أو قائد، ثم إعادة بناء صورة سوداء عليه بالكامل، مع تجاهل سوابقه وفضائله وسياق الأحداث.
هذا النوع خطير لأنه يستخدم «حبّ الحق» و«البحث عن الحقيقة» غطاءً لإعادة تشكيل الوجدان بما يخدم رواية مُسبقة.
4. الرأي — ما ليس تضليلًا بالضرورة
في المقابل، علينا أن ننتبه إلى أن الرأي المخالف – وإن اشتدّ علينا – ليس بالضرورة تضليلًا. فالمسائل الاجتهادية التي وسِع فيها الخلاف، أو التقديرات التاريخية التي تحتمل أكثر من قراءة، لا يجوز خلطها بالكذب المتعمّد.
- قد نرى أن ترجيحات مدرسةٍ سنيةٍ ما حول بعض تفاصيل الفتنة أقلّ دقة أو أقلّ انسجامًا مع منهج الصحابة، لكن هذا لا يجعلها بالضرورة «حملة تضليل».
- الفرق بين من يناقشك بالأسانيد والقواعد، وبين من يسبّ الصحابة ويطعن في عدالتهم ثم يزعم أنه «يقرأ التاريخ بموضوعية».
التفريق بين هذه المستويات الأربعة ليس تمرينًا نظريًا، بل أساس عملي يحدد طريقة تعامل المجلة مع كل خطاب: هل نرد عليه علميًا؟ أم نفضح كذبه المتعمد؟ أم نصنّفه في خانة «رأي مخالف» يُناقش ولا يُشيطَن؟
ثانيًا: لماذا يُعدّ التضليل التاريخي خطرًا على الأمة؟
حين تغزو المعلومات الكاذبة نظامًا ديمقراطيًا، تفسد الانتخابات، وتُقسِّم المجتمع، وتضرب الثقة في المؤسسات. وحين يغزو التضليل ذاكرة أمةٍ رسالتها الخلود، تكون الكارثة أعظم:
-
هدم الثقة في جيل الصحابة
إذا تشوهت صورة عثمان ومعاوية وعائشة وطلحة والزبير وغيرهم، فمن سيبقى قدوة؟ كيف يثق الشاب بالنصوص التي نُقلت عبر هذا الجيل، وهو يسمع ليل نهار أنهم خونة أو طلاب دنيا أو ظالمون؟ -
صناعة حروب طائفية لا تنتهي
التضليل التاريخي يغذي شعورًا دائمًا بالمظلومية عند فئة، وبالذنب عند أخرى، فتتحوّل معارك القرن الأول للهجرة إلى وقود لصراعات القرن الخامس عشر. -
تفريغ مفهوم الشورى والبيعة من مضمونها
حين تتحول خلافة عثمان ومعاوية إلى «انقلاب واستبداد»، يضيع المثال التاريخي لنظام حكم راشد مبني على الشورى والعدل، ويفتح الباب لمشاريع فكرية معاصرة تُعاد فيها صياغة «الإمامة» على أسس ثيوقراطية أو طائفية. -
تخدير روح النقد العلمي
كثيرون يُمنعون من التفكير في أحداث الفتنة تحت شعار «لا تخض في الفتنة»، في الوقت الذي يتسلل فيه خطاب طائفي لاعلمي إلى عقولهم دون مقاومة؛ لأنه يقدَّم لهم على أنه «حبّ آل البيت» أو «القراءة الجريئة للتاريخ».
ثالثًا: أدوات التضليل… من كتب الأخبار القديمة إلى منصات التواصل الحديثة
التضليل لا يتغير كثيرًا عبر العصور؛ إنما تتغير أدواته وأشكاله. ويمكن أن نلخّص أبرز أساليبه في نقاط:
1. اللعب بالعاطفة بدلًا من البرهان
خطاب يعتمد على البكاء والصراخ واللعن، أو على استثارة صور المظلومية والدموع، دون أي جهد حقيقي لتوثيق الروايات أو مناقشة الأدلة.
قصص درامية عن «بكاء السماء دماً» أو «انقلاب الصحابة على الدين بعد وفاة النبي»، تُروى وكأنها حقائق يقينية، بينما هي من جنس القصص الشعبي لا من جنس العلم.
2. خلط الصحيح بالضعيف والموضوع
وضع حديث ضعيف بجوار آية قرآنية أو حديث صحيح، فيبدو للقارئ العادي أن الجميع في مرتبة واحدة.
انتقاء نصوص من كتب التاريخ بلا تمييز بين مؤلف متشدّد مذهبيًا وآخر منصف، ثم نسبتها إلى «أهل السنة والجماعة» جملة واحدة.
3. بتر النصوص عن سياقها
اقتطاع جملة من كلام ابن تيمية أو ابن كثير أو غيرهما، وترك بقية النص التي توازن القول وتشرحه.
إظهار موقفٍ لصحابي في لحظة فتنة، مع إخفاء رجوعه أو ندمه أو الكلمة الأخرى التي تُعدّل المعنى.
4. الصورة والمونتاج
في عصر وسائل التواصل:
- صورة مع تعليق مضلل، أو لقطات قديمة تُعرض على أنها حدث جديد، أو مشاهد درامية من مسلسل تاريخي تُعامل كأنها «وثيقة تاريخية».
- لقطات مقتطعة من مناظرات أو خطب، يُعاد تركيبها بحيث تخدم رسالة واحدة: تشويه الصحابة، أو تبرير سردية طائفية مسبقة.
رابعًا: نحو منهج لمجلة «معاوية بن أبي سفيان» في مواجهة التضليل
لكي لا نتحول إلى «ردود أفعال» متفرقة، لا بد من تأسيس منهج واضح، يمكن تلخيصه في الخطوات التالية:
1. تشخيص نقاط الهشاشة
علينا أن نسأل أنفسنا:
-
ما هي الموضوعات الأكثر تعرضًا للتزييف؟
- مقتل عثمان.
- موقف طلحة والزبير وأم المؤمنين عائشة.
- خلاف علي ومعاوية.
- قضية يزيد وكربلاء.
-
ما هي الاتهامات الجاهزة ضد منهج المجلة؟
- «ناصبية»، «بغض آل البيت»، «تبييض وجه بني أمية»… إلخ.
هذا التشخيص يسمح لنا بأن نعدّ ملفات مرجعية لكل موضوع، بدل أن نُفاجأ بكل موجة تضليل من جديد.
2. قراءة البيئة الإعلامية
جزء من المنهج هو متابعة ما يجري في:
- مقاطع يوتيوب المؤثرة في الشباب.
- حسابات تويتر/إكس ذات الانتشار الواسع في موضوع التاريخ والعقيدة.
- القنوات والمنصات التي تتبنّى مشروع «إعادة قراءة التاريخ» بروح طائفية.
ليس الهدف التجسس أو الانشغال بالقيل والقال، بل معرفة مصادر التضليل حتى نُحسن الرد عليه بأقل قدر من الجهد وأعلى قدر من التأثير.
3. البناء الاستباقي للرواية الصحيحة
لا يكفي أن نرد بعد وقوع الضرر، بل ينبغي أن نُحَصِّن القارئ قبل أن يُخدَع.
-
إعداد مقالات تأسيسية حول:
- معنى الشورى في الإسلام.
- عدالة الصحابة وأثرها في قبول الرواية.
- حقوق أولياء الدم في قضية عثمان.
- قواعد الحكم على الروايات: ما المتواتر؟ ما الصحيح؟ ما الضعيف؟ وما الموضوع؟
-
صياغة هذه المقالات بطريقة:
- مبسطة، بعيدة عن التعقيد،
- مع مخططات وجداول توضيحية إن أمكن،
- ويُستفاد منها لاحقًا في الرد على أي شبهة تظهر في الساحة.
بهذا تتحول المجلة إلى مرجعٍ سابق لأي نقاش، لا مجرد «طرفٍ غاضب» يرد على هذه القناة أو تلك.
خامسًا: بناء مناعة فكرية لدى القارئ
المعركة ليست فقط مع مروجي التضليل، بل مع قابلية الناس للتضليل.
1. تعليم القارئ طرح الأسئلة الصحيحة
كل محتوى تاريخي أو عقدي ينبغي أن يمرّ في ذهن القارئ عبر أسئلة مثل:
- من الكاتب؟ ما منهجه ومواقفه المسبقة؟
- ما مصادره؟ هل يذكر الكتب وأرقام الصفحات؟
- هل يميز بين الصحيح والضعيف، أم يجمع كل شيء في سلة واحدة؟
- هل يعتمد على السب والتهويل والعواطف، أم على البرهان والتحليل؟
2. تعويد الناس على طلب الإسناد والمصدر
منهج أهل الحديث كنزٌ مهجور في زمن التضليل:
- لا نقبل قصة بلا سند واضح.
- ولا نساوي بين رواية مرسلة في كتاب متأخر، وبين رواية موثقة في كتب السنة المعتبرة.
- نُعلّم القارئ أن يسأل دائمًا: «أين المصدر؟ ومن روى هذه القصة؟ وما حكم العلماء في سندها؟»
3. الاعتراف بالظن وعدم تحويله إلى يقين
ثمة قضايا تاريخية لا تصل فيها الأدلة إلى درجة القطع:
- في هذه الحالات، نُبقي الباب مفتوحًا للاجتهاد،
- ولا نُكفِّر ولا نُبدِّع من خالفنا في ترجيحٍ مبني على أدلة مقبولة.
الفرق كبير بين:
- أن نقول: «هذا هو الأرجح عندنا»،
- وبين: «من خالف هذا التفصيل التاريخي فهو عدو للصحابة وخارج عن أهل السنة».
هذه الأمانة العلمية نفسها هي سلاح ضد التضليل؛ لأن التضليل يزدهر في بيئة الشعارات المطلقة واليقينيات الوهمية.
سادسًا: سياسة الرد على الحملات المضلِّلة
ليس كل ما يُقال يُرَد عليه، ولا كل ما يُرَد عليه يحتاج إلى نفس الدرجة من التركيز. يمكن رسم سياسة مختصرة على النحو الآتي:
1. متى نتجاهل؟
- إذا كانت الشبهة في حساب مجهول محدود الانتشار،
- أو إذا كان الرد عليها سيمنحها منبرًا أوسع مما تحتمل.
2. متى نرد؟
- إذا كانت الشبهة تتعلق بأصلٍ من أصول المنهج (عدالة الصحابة، خلافتهم، تفسير حادثة عثمان…)
- أو إذا انتشرت على نطاق واسع بين جمهور نخاطبه ونحرص عليه.
3. كيف نرد؟
- بهدوء، بعيدًا عن الانفعال والسب الشخصي.
-
بترتيب:
- تلخيص الشبهة بإنصاف.
- بيان مصادرها.
- تفكيكها رواية رواية، ونصًا نصًا.
- تقديم الرواية الصحيحة البديلة، لا الاكتفاء بنفي الخطأ.
-
بالتكرار الذكي: إعادة نشر الرد في أكثر من قالب:
- مقال طويل،
- ملخص قصير،
- تصميم بصري،
- مقطع صوتي أو مرئي.
4. توسيع دائرة الشهود
منهجية المجلة لا تقوم على «شخص واحد يرد على العالم»؛ بل:
- الاستعانة بعلماء وباحثين مستقلين يشاركون همّ تصحيح الصورة.
- نشر مقالات لضيوف من مدارس علمية مختلفة يلتقون في نقطة احترام الصحابة والبحث النزيه عن الحقيقة.
وجود هذه الأصوات المتعددة يُضعف تأثير التهمة الجاهزة: «هذا مجرد رأي فرد أو تيار منحاز».
خاتمة: نحو أخلاقٍ جديدة للحقيقة
إن مشروع مجلة معاوية بن أبي سفيان ليس مجرد إعادة اعتبارٍ لشخصيات تاريخية ظلمتها الروايات المتأخرة؛ بل هو أوسع من ذلك:
- استعادة أخلاق الصدق التي أمر بها القرآن:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾
وتطبيقها على المجال التاريخي والفكري، ورفض تحويل الكذب أو الكتمان أو بتر النصوص إلى «وسائل مشروعة» لخدمة ما يُسمى بقضية الحق.
مهمتنا ليست أن ننتصر لاسم «معاوية» ضد اسم «علي»، بل أن ننتصر لـمنهج الصحابة كلهم، ولحقيقة الوقائع كما هي، بعيدًا عن تضليل العباسيين والباطنيين ومن سار على نهجهم في العصر الحديث.
بهذا فقط يمكن للأمة أن تبني وعيًا تاريخيًا ناضجًا، لا يخضع لابتزاز المظلومية، ولا ينجرّ إلى حروب طائفية، بل يفتح الباب أمام مصالحة عادلة مع تاريخها، ويجعل من الماضي قوةً للنهضة لا وقودًا للتمزق.
التضليل التاريخي ومعركة الوعي
كيف تحوّل مجلة «معاوية بن أبي سفيان» مفاهيم التنظير إلى أمثلة حيّة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
بنت مجلة معاوية بن أبي سفيان رؤيتها على منهجٍ راشدٍ يقوم على تصحيح البوصلة التاريخية والعقدية للأمة الإسلامية، وإحياء الوعي بمنهج الصحابة، بعد أن لوّثت الدعاية الشيعية–العباسية–الباطنية الوعي العام، وشوّهت الوقائع وروّجت للأباطيل على حساب الحقيقة.
هذا المشروع ليس مجرد خطاب انفعالي ضد خصم مذهبي، بل محاولة منهجية لمواجهة التضليل التاريخي: تضليل حوّل قتلة عثمان إلى “ثوار”، وغلّف سياسة علي بهالة عصمةٍ غير مصرّح بها، وصوّر معاوية ومعسكر الشام على أنهم “فئة باغية”، وأعاد تعريف أهل السنة وفق القاموس العباسي لا وفق نصوص القرآن والسنّة.
في هذا المقال سنربط بين مفهوم التضليل كما تُعرّفه أدبيات حرب المعلومات الحديثة، وبين ما تفعله المجلة عمليًا في مقالاتها من تحقيق وتوثيق وكشف للسرديات المزيفة.
أولًا: من النظرية إلى التطبيق
كيف نترجم: التضليل – المعلومات الخاطئة – المعلومات المؤذية – الرأي… إلى ساحة الفتنة الكبرى؟
في العلوم الحديثة يُفرَّق بين أربع طبقات من المحتوى: التضليل، والمعلومات الخاطئة، والمعلومات المؤذية، والرأي. ولو أسقطنا هذه الطبقات على ساحة التاريخ الإسلامي والفتنة الكبرى، سنجد أن أقسام المجلة ومقالاتها تلامس كل مستوى من هذه المستويات:
-
التضليل (كذب متعمّد):
يتجلى في الروايات التي صُنعت أو انتُقيت بعناية لتقديس طرفٍ وتشيطن آخر. مثال ذلك: مقال «علي.. من معارضة النبي ﷺ إلى الطعن في الخلفاء» الذي يكشف طبقة من التضليل العباسي–الشيعي أخفت نصوصًا صحيحة من الصحيحين لأنها تهدم أسطورة “العصمة السياسية” التي بُني حولها خطاب كامل. -
المعلومات الخاطئة (يُنشر الجهل بحسن نية):
كثير من الخطباء والوعّاظ ينقلون ما اشتهر في الكتب المتأخرة ومقاطع الفيديو دون تمحيص، فيعيدون إنتاج جهل تراكم عبر القرون. مقالات التحقيق في المجلة تعالج هذا المستوى عبر تتبع الأسانيد والمصادر الأصلية بدل تكرار ما شاع في الخطب والمنابر. -
المعلومات المؤذية (حق يُراد به باطل):
استعمال نصوص صحيحة، لكن بترها من سياقها أو تضخيمها، للتشويه. مثال ذلك:
«فضالة بن عبيد.. مفتي دمشق وصاحب النبي ﷺ الذي ولاه معاوية» و «أبان بن عثمان بن عفان رضي الله عنهما» ؛ فهذه المقالات تعيد عرض تراجم رجال الشام والعثمانية الذين تعمّد الخطاب المضلِّل تقزيمهم أو إسقاطهم من الوعي العام، مع أن شهاداتهم حاسمة في ميزان القصاص والشورى. -
الرأي (اجتهاد وتقدير لا يساوي الكذب المتعمد):
المجلة تفرّق بين من يخالف في بعض التفاصيل بناء على اجتهادٍ علمي، وبين من يسبّ الصحابة ويطعن في عدالتهم ثم يتستر بعنوان “قراءة جديدة للتاريخ”. هذا التفريق يظهر بوضوح في مقالات المنهج والرؤية، وفي «دليل المناظِر العثماني» الذي يضع أُسسًا راشدة لإدارة الخلاف دون تحويل الخصومة العلمية إلى تضليل متعمّد.
بهذا المعنى، تُصبح المجلة مختبرًا حيًّا لمواجهة التضليل التاريخي، لا مجرد منصة نشر رأي أو انفعال.
ثانيًا: مثال تطبيقي 1
تفكيك “أسطورة العصمة الهاشمية” في مقال: «علي.. من معارضة النبي ﷺ إلى الطعن في الخلفاء»
هذا المقال لا يكتفي بإعلان موقف عقدي، بل يشتغل على مستوى تشريح خطاب التضليل الذي قدّس سلوك شخصية تاريخية وأخفى ملفات كاملة من سيرتها.
-
العودة إلى أصح المصادر:
يعتمد المقال على نصوص من صحيح البخاري في قصة الحديبية ومواضع أخرى، ليُظهر نمطًا من الممانعة والجدل، لا حادثة معزولة. وبذلك يواجه تضليلًا أخفى هذه النصوص أو همّشها لأن ظهورها يهدم صورة مثالية صُنعت في عصور متأخرة. -
تحويل “المقدّس” إلى مادة تحليل:
كثير من المسلمين نشؤوا على أن نقد مواقف معيّنة من تلك الشخصية “نصب” أو “بغض لأهل البيت”. المقال يكسر هذا الخوف، ويطالب بمنهج واحد في التعامل مع كل الصحابة: ما ثَبَت يُقبل، وما لم يثبت يُرد، وما كان اجتهادًا يُوزن بميزان الشورى والقصاص. -
ربط السلوك الفردي بالنتائج السياسية:
يربط المقال بين سلوك المعارضة المبكرة، وتأخر البيعة، وبعض المواقف من عثمان، وبين ما آل إليه أمر الفتنة الكبرى؛ ليقول إن صناعة المظلومية لم تنشأ من فراغ، وإن جزءًا من التضليل هو إخفاء مسؤولية المواقف لا تعظيمها.
هكذا يكشف هذا المقال طبقة تضليلٍ تاريخي حاولت فرض “قداسة سياسية” على حساب النصوص والوقائع، ويعيد الأمور إلى ميزان البحث الرشيد.
ثالثًا: مثال تطبيقي 2
من تغييب الحدث إلى توثيقه بالصورة: «طعن علي بن أبي طالب في ولي أمره عثمان بن عفان أمام الناس»
هذا المقال يعالج نوعًا آخر من التضليل: التضليل بالصمت أو بالتلطيف. كثير من السرديات التقليدية إما تتجاهل هذه الحادثة أو تمرّ عليها بخجل؛ لأنها تفتح ملف مسؤولية بعض الكبار في كسر هيبة الخليفة الثالث.
-
تعقّب الروايات في المصادر:
يستعرض المقال الروايات الواردة في مسلم وأحمد وغيرها، ثم يذهب إلى مصادر أقدم أو أوضح ليثبت نصّ ردّ عثمان على علي، والذي حُذفت ألفاظه أحيانًا أو لُطِّفت، مع مناقشة حال الراوي المختلف فيه وكيف وثّقه بعض الأئمة. -
تشبيه الحدث بلغة الحاضر:
يقارن الكاتب بين المشهد وبين وزير في زمننا يقف في مؤتمر عالمي ليتهم رئيس الدولة بمخالفة الدين أمام الوفود. هذا التشبيه يجعل القارئ المعاصر يدرك جسامة الفعل دون أن يتخبّط في التفاصيل الفقهية. -
التوثيق بالصور والمخطوطات:
يختم المقال بعرض صور للمراجع والهوامش؛ ليقول للقارئ: “نحن لا نخترع رواية، بل نعيد إلى الضوء نصوصًا حاول التضليلُ التاريخي دفنها في الهوامش”.
بهذا يتحول المقال إلى مثال حيّ على مواجهة تضليل الحذف والانتقاء: حين تُخفى بعض الألفاظ أو تُسطَّح الأحداث بدعوى الأدب مع شخصيات بعينها.
رابعًا: مثال تطبيقي 3
تفكيك سلاح اتهام “النصب” في: «العثمانية الأصيلة ومسألة التربيع بعليّ»
التضليل لا يشتغل فقط على مستوى الحوادث، بل على مستوى المعايير والمصطلحات. هذا المقال يواجه فكرة رسّختها قرون من الخطاب العباسي، مفادها: إما أن تُقرّ بالتربيع بعلي بعد عثمان، وإما أن تُتهم بالنصب وبغض أهل البيت.
-
العودة إلى أصول التعريف:
يستحضر المقال كلام ابن تيمية في منهاج السنة حول أن معيار أهل السنة هو إثبات خلافة الثلاثة، وأن الخلاف في علي لا يخرج المخالف من السنة. هذه النقطة تضرب في صميم “المعيار الجديد” الذي فرضه التضليل المتأخر. -
كشف التلاعب بالمصطلحات:
يبيّن المقال أن جعل “التربيع بعلي” شرطًا لدخول دائرة السنة هو إضافة متأخرة، وأن العثمانية الأوائل، ومعهم أئمة من أهل الحديث، لم يجعلوا هذا شرطًا بل رأوا أن هذا الباب من أبواب الاجتهاد، لا من أصول العقيدة. -
نزع سلاح التخويف:
حين يدرك القارئ أن اتهامه بالنصب لأنه لم يتبنّ معيارًا عباسيًا متأخرًا هو نوع من التضليل، يستعيد شجاعته العلمية، ويعود إلى الأصل: الدليل، لا تهمة الخصم.
بهذا يتحول المقال إلى أداة عملية لتفكيك أحد أكبر أسلحة التضليل المذهبي: استعمال تهمة “النصب” لإسكاته ومنعه من مراجعة السردية الرسمية.
خامسًا: مثال تطبيقي 4
الردّ بالرواية الإيجابية لا بالسب: «فضالة بن عبيد.. مفتي دمشق وصاحب النبي ﷺ الذي ولاه معاوية» و «أبان بن عثمان بن عفان»
التضليل في الوعي العام لا يقتصر على تشويه صورة شخصٍ بعينه، بل يتعداه إلى تشويه معسكر كامل، مثل معسكر الشام والعثمانيين، عبر التركيز على روايات معينة وإخفاء أخرى.
-
إعادة الاعتبار لصحابة الشام والعثمانية:
مقال فضالة بن عبيد يعرض سيرة صحابي فقيه محدّث، ولاه معاوية على دمشق، فيربط بين الشخصية العلمية والخيار السياسي في الوقوف مع معسكر القصاص لعثمان. بهذه الطريقة ينهار التعميم الذي جعل كل من كان مع الشام “باغيًا” أو “طالب دنيا”. -
ملء فراغ الوعي:
مقال أبان بن عثمان يذكّر القارئ بابن الخليفة المظلوم، وأنه من فقهاء المدينة وأهل الفتوى ومن المشاركين في وقعة الجمل مع أم المؤمنين عائشة. هذه الترجمات تعيد ملء مساحة الوعي بأسماء كانت مغيّبة لصالح سردية واحدة.
هذه الإستراتيجية تجعل من المجلة منصة لا تكتفي بنقض الأكاذيب، بل تبني صورة إيجابية متوازنة للمعسكر الذي استهدفه التضليل لعقود طويلة.
سادسًا: مثال تطبيقي 5
من مقالة في فن الخطاب إلى برنامج عملي ضد التضليل: «دليل المناظِر العثماني»
هذا المقال هو العمود الفقري لمقاومة التضليل على مستوى المناظِر والمؤثر، لأنه يحوّل مبادئ المجلة إلى خطوات عملية:
-
مثلث الهجوم:
النية (لماذا تناظر؟)، والقدرة (ما مدى إحكامك للمادة العلمية؟)، والفرصة (متى وأين تضرب الشبهة؟). هذه العناصر الثلاثة تمنع المناظر من الدخول في سجالات عشوائية بلا هدف واضح. -
مراحل إدارة المناظرة:
من الوصول الأولي بسؤال كاشف، مرورًا بتنفيذ الهجوم بمثال قاطع، ثم الإلزام المنطقي، ثم الإغلاق بخلاصة قصيرة ترسخ في ذهن الجمهور. كل هذا يترجم شعار المجلة: “نقول الأشياء كما هي ونحتكم إلى الدليل”. -
قواعد أخلاقية ومنهجية:
المقال يصرّ على لغة هادئة حادة عند اللزوم، والالتزام بالروايات الصحيحة، وتجنّب السب الشخصي، والتركيز على هدم “النظام الفكري” للخصم لا شخصه.
بهذه الطريقة، لا تتحول مواجهة التضليل إلى فوضى سباب، بل إلى فن راشدي في الجدال يخدم الحقيقة ولا يهدم الأخلاق.
سابعًا: ما الذي تعلّمناه عن مقاومة التضليل؟
- التوثيق قبل الموقف: الأحكام لا تُبنى على الشعارات، بل على تتبّع الروايات في الصحيحين وكتب التراجم، مع صورٍ للمصادر والهوامش كلما أمكن.
- ضرب أسطورة العصمة السياسية: ليس الهدف إهانة أحد، بل إزالة الهالة التي منعت الناس من قراءة النصوص كما هي، لأن هذه الهالة نفسها أداة من أدوات التضليل.
- إحياء المعسكر المغيَّب: تقديم نماذج من رجالات الشام والعثمانية (فضالة، أبان، وغيرهما) لإعادة التوازن للصورة، بعد عقودٍ من اختزالهم في صورة “الفئة الباغية”.
- تعليم القارئ مهارات القراءة النقدية: التفريق بين الرأي والاجتهاد من جهة، والتضليل المتعمّد من جهة أخرى؛ وبين المعلومة الصحيحة المستعملة في سياق باطل، والمعلومة الخاطئة المنتشرة بحسن نية.
- الالتزام بلهجة راشدة: المجلة تعلن أنها منصة بحثية نقدية بلا مجاملات، لكنها في الوقت نفسه ترفض الانزلاق إلى أسلوب الشتم والطعن الشخصي، لأن هذا نفسه بيئة خصبة للتضليل.
خاتمة: مجلة ضد التضليل، لا ضد الأشخاص
إن مشروع مجلة معاوية بن أبي سفيان يخوض معركة الوعي ضد التضليل التاريخي: بالعودة إلى النصوص، وبإحياء الشخصيات المغيَّبة، وبنزع أقنعة القداسة الزائفة، وببناء جيل من المناظرين الواعين الذين يملكون أدوات القراءة والرد، لا مجرد الغضب والصراخ.
هكذا يمكن للمجلة أن تتحوّل – مع تراكم المقالات والتراجم والتحقيقات – إلى مرجع راشديّ يحرّر ذاكرة الأمة من التضليل، ويعيد بناء تصور متوازن عن الصحابة والفتنة والشورى والقصاص، بعيدًا عن عباءة العباسيين والباطنيين ومن ورث خطابهم في عصرنا.