دمُ "المجوسي" ودمُ "ذي النورين": سقوط أسطورة العدالة الانتقائية عند الخطّ العلوي
في معاركنا الفكرية ضد السرديات التاريخية المصنوعة، لا نجد مثالًا أبلغ في كشف الازدواجية العلوية من ملف (عبيد الله بن عمر والهرمزان). هذه القضية التي يرفعها خصوم الدولة الأموية رايةً لبيان “صرامة علي في الحق”، ليست إلا أوضح دليل على تسييس القصاص وانتقائية العدالة.
اليوم نضع النصوص تحت مجهر الحقيقة، لنرى كيف طارد القومُ دمَ رجلٍ متهمٍ بقتل “الفاروق”، وأهدروا دمَ خليفةٍ راشدٍ قُتل مظلومًا وهو يقرأ القرآن.
أولاً: أصل القصة… اجتهادٌ يدرأ الحدّ
حين استشهد الخليفة الملهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثار ابنه عبيد الله غضبًا حين رأى الهرمزان مع أبي لؤلؤة ومعهما الخنجر الذي طُعن به عمر — كما شهد عبد الرحمن بن أبي بكر.
قتل عبيد الله الهرمزان متأولًا قصاصًا لأبيه. وهنا يقرّر الفقه السني الراشد — كما في منهاج السنة — قضيتين أساسيتين:
1) شبهة التأويل: الحدّ يُدرأ بالشبهة، والمتأوّل لا يُقتل. كما لم يقتل النبي ﷺ أسامة بن زيد رغم قتلِه رجلًا نطق بالشهادة.
2) ولاية الدم: الهرمزان بلا عشيرة ولا أولياء في المدينة، فصار السلطان (عثمان) هو وليّه الشرعي.
وقد مارس عثمان حقه كوليّ للدم: عفا عن القصاص، وقَبِل الدية، ودفعها من ماله الخاص حفظًا لوحدة الأمة. وهكذا أُغلق الملف قضاءً وشرعًا.
ثانيًا: الإصرار العلوي… حدّ شرعي أم ثأر سياسي؟
على الرغم من انتهاء القضية بحكم الخليفة الراشد، احتفظ عليّ بهذا الملف في أدراج ذاكرته اثنتي عشرة سنة كاملة.
ينقل ابن حجر في الإصابة:
«لأن عليًّا استمرّ حرصُه على أن يقتلَه بالهرمزان».
بل نقلت المصادر أنه كان يقول نذرًا: «لئن ظفرت بعبيد الله لأقتلنه».
وحين تولى عليّ الخلافة، كان أول ما بدأ به هو ملاحقة عبيد الله — الذي هرب إلى معاوية. وهنا يبرز السؤال القاصم:
هل يعقل أن يبقى “سيف العدالة” مسلولًا 12 عامًا لأجل رجلٍ متهم بالنفاق، ويُغمد عندما يتعلق الأمر بدم عثمان بن عفان؟!
ثالثًا: الميزان المكسور (النص القاطع لابن تيمية)
هنا تأتي كلمة شيخ الإسلام ابن تيمية التي تكشف جوهر الأزمة، وتفضح التناقض بين الدمين:
«من العجب أن دم الهرمزان — المتهم بالنفاق والمحاربة لله ورسوله — تُقام فيه القيامة! ودمُ عثمان — إمام المسلمين، الشهيد، الموعود بالجنة — لا تُجعل له حرمة!»
هذه العبارة وحدها تهدم كل السردية العلوية. ففي الفقه السياسي عندهم:
دمُ المجوسي له حرمة… ودمُ خليفة رسول الله لا حرمة له.
رابعًا: معاوية يكشف اللعبة
لم يفُت دهاءُ معاوية إدراكُ المفارقة: لماذا يُطلب دم “قاتل قاتلِ عمر”، ولا يُطلب دم “قاتل خليفة المسلمين عثمان”؟
لقد آوى معاوية عبيد الله، وكان موقفه رسالة سياسية واضحة:
“إن كان عليّ يبحث عن العدالة، فالأَوْلى أن يبدأ بدم عثمان لا بدم الهرمزان.”
وهكذا أصبحت الشام ملاذ الدولة، بينما أصبحت الكوفة مركز “العدالة الانتقائية”.
الخلاصة
إن محاولة تصوير ملاحقة علي لدم الهرمزان بأنها “صرامة في الحق” تسقط عند أول مقارنة بدم عثمان.
حين يكون القتيل مجوسيًا: يتذكرون الحدود.
وحين يكون القتيل عثمانيًا: يتذكرون الفتنة والمصالح.
رحم الله عثمان، الذي فدى الأمة بدفع الدية من ماله، ورحم الله معاوية، الذي حمى ابن الفاروق من سيفٍ لم يستيقظ إلا في الاتجاه الخطأ.
المراجع
1 — ابن تيمية، منهاج السنة النبوية، المجلد السادس: مناقشة قضية الهرمزان ودم عثمان.
2 — ابن حجر العسقلاني، الإصابة في تمييز الصحابة، ترجمة عبيد الله بن عمر.
3 — أبو بكر ابن العربي، العواصم من القواصم، فصل دفاع عثمان وولاية الدم.
4 — الطبري، تاريخ الرسل والملوك، أحداث مقتل عمر وقضية الهرمزان.