عبد الرحمن الداخل: صقر قريش وبناء الغرب الإسلامي

المقدمة
في زمنٍ سقطت فيه الدولة الأموية على يد العباسيين، وامتلأت المشرق دمًا ودمارًا، خرج شابٌّ أمويٌّ يافع اسمه عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك، ليشق طريقًا في المجهول، ويؤسس في أقصى الغرب دولةً صمدت لثلاثة قرون، فكانت صدى دمشق في قرطبة، وشرارة النور الإسلامي في قلب أوروبا.
«ذلك صقر قريش، طار من الشام حتى نزل الأندلس، فباض فيها وفرّخ.» — الخليفة العباسي المنصور
من مجازر العباسيين إلى شواطئ الأندلس
بعد سقوط الدولة الأموية سنة 132هـ / 750م، طارد العباسيون بقايا بني أمية بوحشية. لم ينجُ منهم سوى هذا الشاب عبد الرحمن الذي كان في نحو العشرين من عمره. هرب عبر نهر الفرات، ثم إلى مصر، ومنها إلى المغرب، متنكرًا، لا يملك إلا اسمه وذكاءه وشجاعته.
في قبائل النفزاوة وزناتة وجد مأوى مؤقتًا، ثم اتجه إلى الأندلس، حيث كانت الصراعات تمزق الولاة العرب والبربر هناك. فاستغل الفوضى بحكمة، وجمع حوله أنصار بني أمية وأنصار العدل ضد العباسيين.
قيام إمارة الأندلس
في سنة 138هـ / 756م، دخل عبد الرحمن الداخل قرطبة وأعلن نفسه أميرًا على الأندلس، مؤسسًا أول دولة إسلامية مستقلة في الغرب، منفصلة عن الخلافة العباسية.
بنى جيشًا جديدًا من العرب والبربر والمولَّدين، وأسس إدارةً صارمة، ومؤسساتٍ مالية، وأعاد للأندلس الأمن بعد عقودٍ من الفوضى.
رجل الدولة والبناء
- شيّد نواة الجامع الكبير في قرطبة، الذي صار لاحقًا رمزًا للحضارة الإسلامية.
- نظّم الزراعة وشقّ الجداول وأدخل أنظمة ريٍّ متقدمة.
- اعتمد مبدأ التوازن بين القبائل العربية والبربرية فجمعهم على مشروع الدولة لا العصبية.
«ما رأينا أميرًا جمع بين الحزم والرحمة مثل عبد الرحمن الداخل.»
نظرة الغرب إليه
تصفه الكتابات الغربية الحديثة بأنه المؤسس الحقيقي لإسبانيا الإسلامية و«اللاجئ الذي غيّر وجه أوروبا». ويراه بعض المؤرخين مثل Dozy وLane-Poole رجل دولة عبقريًا استطاع تحويل المنفى إلى حضارة. لكن آخرين ينتقدون طابعه الشخصي في الحكم واعتماده على الصقالبة والموالي، معتبرين أن الأندلس أصبحت معزولة عن المشرق الإسلامي رغم تفوقها الحضاري.
الإرث الحضاري والرمزي
عبد الرحمن الداخل هو الأب المؤسس للهوية الأندلسية الإسلامية: نقل نموذج العاصمة الدمشقية إلى قرطبة، وأرسى نظامًا إداريًا متينًا، وأسس لنهضةٍ امتدت قرونًا.
كتب أحد الشعراء الأندلسيين بعد قرون:
يا طائرًا من نجدٍ جاءنا
فبنى مجدًا فوق ما بنى الأولون
الدلالة التاريخية
في شخصه تتقاطع معاني النجاة من الإبادة، وبناء الدولة، وتحويل الهزيمة إلى ولادة. قال عنه ابن خلدون:
«كان الداخل من أعجب الناس سياسةً وتدبيرًا، أقام ملكًا من العدم.»
الخاتمة
ليس عبد الرحمن الداخل مجرد أمير؛ بل هو رمز الإنسان الذي ينتصر على التاريخ. خرج من بين الدماء ليصنع حضارةً جديدة، ومن بين الخراب ليغرس نخلةً في أرضٍ بعيدة.
تبدّت لنا وسطَ الرصافة نخلةٌ
تناءت بأرض الغرب عن بلد النخلِ
فقلتُ شبيهي في التغرّب والنوى
وطولِ التنائي عن بَنِيَّ وعن أهلي
هكذا تلخّص النخلة المنفية قصته: الحنين، العظمة، والوحدة. ومن قلب هذا الحنين، وُلدت الأندلس.